المبدعون الروس والنبي العربي
م: شاهر أحمد نصر
تتبادر إلى ذعلاقة العباقرة والمبدعين الروس ـ الذين يطيب للنقاد والمثقفين الروس وصفهم بالأنبياء ـ بالنبي العربي. وقد يتبادر إلى ذهن البعض أنّ هذا البحث ناجم عن التأثر بالانتشار الواسع للأفكار الدينية محلياً وعالمياً، خاصة بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، والصدمة التي تلقاها أتباع الفكر الماركسي والعلماني فهن الكثيرين تساؤلاتٌ جمة ذات دلالات، وأشكال متنوعة، حول سبب، ومغزى، وجدوى البحث في ي نهاية القرن العشرين... من هنا تأتي، أولاً، ضرورة تبيان الأسس التي ننطلق منها في هذا البحث، وغاياته، التي يمكن تلخيصها فيما يلي:
ـ نعتمد المنطق، والمنهج العلمي في بحثنا، ونجهد معتمدين على الأسس العلمية الموضوعية قاصدين المعرفة والبحث عن بعض جذور العلاقات المعرفية والروحية بين الحضارتين العربية والروسية، وبين الدول العربية والدولة الروسية التي نرى أنّ العلمانية هي الأساس السليم لبنائها، محاولين الإجابة عن سؤال إن كانت توجد أسس متجذرة في وعي الشعبين تأسس لصداقة بينهما مبنية على أسس تفوق المصالح الاقتصادية المباشرة، وتتغلغل في وعي وروح الشعوب.
سنسعى في بحثنا هذا لتبيان النقاط التي أثرّت فيها الثقافة العربية والنبي العربي محمد على المبدعين الروس، والنقاط المشتركة التي تجمعهم، والبحث في أسباب وسر ولع الأنبياء الروس بالنبي العربي.
وقبل أن نبحث في المسائل التي جذبت اهتمام المبدعين الروس، وخاصة منهم بوشكين، وتلستوي، ودوستيفسكي، وليرمنتوف، وبونين من الضروري تسليط الضوء على بعض الجوانب المميزة لهؤلاء المبدعين، وللنبي العربي
يقول مهاتما غاندي:
" أردت أن أعرف صفات الرجل الذي يمتلك بدون نزاع قلوب ملايين البشر.. لقد أصبحت مقتنعاً كل الاقتناع، أن السيف لم يكن الوسيلة التي من خلالها اكتسب الإسلام مكانته، بل كان ذلك من خلال بساطة الرسول مع دقته وصدقه في الوعود
ويقول المفکر الفرنسي لامرتين: "... حتى صلاة النبي الدائمة ومناجاته لربّه ووفاته وانتصاره حتى بعد موته، كل ذلك لا يدل على الغش والخداع، بل يدل على اليقين الصادق، الذي أعطى النبي الطاقة والقوة لإرساء عقيدته"...
أما برنار دشو فيقول: "إنّ العالم أحوج ما يكون إلى رجلٍ في تفكير محمد... إنّ رجال الدين في القرون الوسطى، و نتيجةً للجهل أو التعصّب، قد رسموا لدين محمدٍ صورةً قاتمةً، لقد كانوا يعتبرونه عدوًّا للمسيحية، لكنّني اطّلعت على أمر هذا الرجل، فوجدته أعجوبةً خارقةً، و توصلت إلى أنّه لم يكن عدوًّا للمسيحية، بل يجب أنْ يسمّى منقذ البشرية..."
ويقول السير موير الإنكليزي في كتابه تاريخ محمد: "إن محمداً نبي المسلمين لقب بالأمين منذ الصغر بإجماع أهل بلده لشرف أخلاقه وحسن سلوكه ".
ويقول مايكل هارت في كتابه "مائة رجل من التاريخ": "إن اختياري محمداً ، ليكون الأول في أهم وأعظم رجال التاريخ، قد يدهش القراء، ولكنه الرجل الوحيد في التاريخ كله، الذي نجح أعلى نجاح على المستويين: الديني و الدنيوي.
... و لأنه أقام جانب الدين دولة جديدة، فإنه في هذا المجال الدنيوي أيضاً، وحّد القبائل في شعـب، و الشعوب في أمة، و وضع لها كل أسس حياتها، و رسم أمور دنياها، ووضعها في موضع الانطلاق إلى العالم..."
إن كانت تلك بعض الصفات التي امتاز بها النبي العربي، والتي أقرّ بها أبرز المفكرين الذين عرفتهم البشرية، فمن هم هؤلاء المبدعون الروس الذين يفتخر بهم شعبهم ويسميهم النقاد الروس بالأنبياء، وما سرّ ولعهم بالنبي العربي؟
بوشكين والنبي العربي(2)
يعدّ بوشكين أستاذ الفن العظيم الغني بالروعة والجمال. إنّه: "جد الأدب الروسي الكلاسيكي، مؤسس الواقعية الروسية، ومؤسس اللغة الروسية الأدبية: إنه بدعة حقيقية". كما يقول مكسيم غوركي. ويقول بوشكين عن نفسه في إحدى قصائده:
لن أموت أبداً ـ ستبقى روحي معلقة بقيثارتي ،
وستعود تنبض بعد تحلل رفاتي ،
سأبقى وفياً لشعبي ،
للعواطف الرقيقة التي أيقظها في نفسي،
لأمجد الحرية في عصري القاسي
وأدعو للرأفة بالضحايا والمساكين.
كان بوشكين شاعراً موسوعياً فذاً، ناهض الظلم، وصور في قصته القصيرة "دوبروفسكي" علاقة الملاك والإقطاعيين الروس بالفلاحين، وعرّى سلوك بعض الإقطاعيين اللاإنساني. وكان نصيراً للمظلومين وللثائرين على الظلم والاستبداد؛ فكتب قصيدة "تحت سماء بلادنا الزرقاء .." التي عبّر فيها عن تأثره العميق نتيجة الإعدامات والنفي وذلك بعد أن علم بشنق خمسة ديكابريين. وكتب قصيدة "النبي" التي قال فيها:
"تمرّد ، تمّرد يا نبي روسيا "
ودعا أصدقاءه الديكابريين أن "يحافظوا على صبرهم الأبي". وعبّر عن ثقته بأن:
سلاسل القيود ستسقط ،
وينقشع الظلام ، وتهبّ الحرية
لتكسوا محياكم ...
ألا تدل مجمل هذه الصفات؛ من نبذ الظلم، والرأفة بالضحايا والمساكين، والحبّ الطاهر النظيف، وتبجيل العمل على وجود نقاط مشتركة في خصال العظماء من البشر من مختلف القوميات... وقد يتساءل البعض أين تأثر نبي روسيا هذا بالنبي العربي؟ وللإجابة على هذا السؤال من الضروري التعرف بعمق على مختلف القصائد والأعمال التي أبدعها بوشيكن حول
بوشكين والقرآن
قرأ بوشكين كل ما وقع بين يديه عن الشرق، وعن العرب، وعن الإسلام؛ ومنها: الرسائل الفارسية لمونتسكيو، والقصص الشرقية لفولتير، والحكايات السحرية لهاملتون، وقصائد بايرون الشرقية، كما وقع تحت تأثير "ألف ليلة وليلة" وسطوتها. واستمع بوشكين، خلال دراسته في "الليسية" (المدرسة العليا) إلى محاضرات البروفيسور كايدانوف، عن التاريخ القديم، وكانت النصيب الأكبر من هذه المحاضرات عن الجزيرة العربية، وعن الإسلام، وعن سيرة النبي العربي محمد.(3)
تعرف بوشكين في منفاه الأول إلى القوقاز في الجنوب ـ كعقوبة على أشعاره المنددة بالقيصر، والمناهضة للظلم والاستبداد والحكم المطلق ـ إلى الشعوب الإسلامية، والتقى، كما قال فيما بعد، بعالم الشرق الغرائبي، الذي كان من أهم مناهل الشعر الرومانسي الذي أبدعه. واهتم بوشكين ـ كما يقول الأستاذ مال صقور ـ بالقرآن، وأعجب به، بل شغف به شغفاً عظيماً. ومن فرط إعجابه به، تأثر بآياته، وبسيرة وشخصية النبي العربي محمد، كتب قصيدة من تسعة مقاطع مختلفة الطول، بعنوان "محاكاة القرآن".
وتعد قصيدة "النبي" كواحدة من أهم القصائد التي تعكس تأثر بوشكين بالقرآن، وبسيرة الرسول العربي العظيم محمد، يقول فيها:
عذبني عطش الروح
وأنا منبوذ في صحراء مقفرة
فجأة، ظهر الملاك ذو الأجنحة الستة
لي على القارعة
مسح على عيني
بأصابع خفيفة كما في الحلم
انحنى على فمي
اقتلع لساني الآثم
الماكر المعقود
وزرع الحكمة الحية
في فمي الظامئ
بيده اليمنى المضرجة
وبسيفه شق صدري
وانتزع قلبي المرتعش
ووضع في صدري المنشق
جذوة نار ملتهبة
وارتميت كالجثة في الصحراء
وجاءني صوت الربّ:
انهض، أيها النبي وأبصر
لبِّ إرادتي
وجُبِ البّر والبحر
وألهب بفعلك قلوب الناس"(4)
من الجلي أن بوشكين يستلهم سيرة النبي محمد من القرآن ومن اطلاعه على السيرة النبوية.
كما كتب بوشكين قصيدة قصيرة بعنوان "المغارة"، يقول فيها:
في المغارة السرية
في يوم الهروب
قرأت آيات القرآن الشاعرية
فجأة هدأت الملائكة روعي
وحملت إليّ التعاويذ والأدعية.(5)
وكتب بوشكين قصائد تحمل عنوان (محاكاة)، مثل: (محاكاة القديم)، و(محاكاة الإيطالي)، و(محاكاة العربي)، و(محاكاة القرآن).
يقول الدكتور محمد غنيمي هلال: "وعلاقة المتأثر أو المحاكي ـ في هذه الحالة ـ ليست علاقة التابع بالمتبوع، ولا علاقة الخاضع المسود بسيده، بل علاقة المهتدي بنماذج فنية أو فكرية يطبعها بطابعه، ويُضفي عليها صبغة قوميته".
لم يخجل بوشكين من تسمية قصيدته "محاكاة القرآن" كونه لا يقصد الإساءة إلى النص الأصلي، بل يقصد الإفادة والاقتباس، وأيضاً كي يغني نماذجه الفنية، وها هو يؤكد هذا بقوله: "العبقرية لا إرادية، ومحاكاتها لا تعني سرقة مخجلة، أو فقر للعقل، بل تعني حافزاً في اكتشاف فضاءات جديدة".
سنستعرض فقرة مما جاء في قصيدته "محاكاة القرآن" لنتعرف إلى القضايا التي أثارته في هذا الخصوص:
كن رجلاً شجاعاً
احتقر الغش والخد
|